-->
موقع العدالة المغربية موقع العدالة المغربية
مقالات

آخر المستجدات

مقالات
مقالات
جاري التحميل ...

الحماية الجنائية للمعاملات الإلكترونية وفق النصوص التقليدية، فؤاد برامي | موقع العدالة المغربية.

فؤاد برامي (*)
موقع العدالة المغربية. www.justicemaroc.com
إن استخدام التكنولوجيا شكل حدثا مهما، حيث ارتبطت بشكل قوي بمختلف مجالات النشاط الإنساني حتى أصبح يستحيل الاستغناء عنها، وأضحت وسيلة ضرورية للتقدم ومواكبة التطورات الحاصلة في شتى المجالات. إلا أن لها جانب سلبي يتمثل أساسا في بزوغ أفعال وأعمال غير مشروعة تهدد المعاملات الإلكترونية وتعرضها للسرقة والنصب وخيانة الأمانة...
الجدير بالذكر أن التطور الذي عرفته تكنولوجيا المعلوميات، رافقه ظهور أشكال جديدة للإجرام لم تكن مألوفة في الزمن القريب، وهذا أمر فرضته طبيعة الإنسان المحبة للاكتشاف والتحدي، إذ أن الإنسان يسعى لتطوير مهاراته التكنولوجية فالبعض يوظفها في كل ما هو إيجابي، والبعض الأخر يطور أساليبه الإجرامية وفق بيئته وظروفه وحاجياته، فلم يكن من الغريب في شيء أن يستثمر هذا التطور التكنولوجي ليرتقي بوسائله الإجرامية.
ومن هذا المنطلق فإن فقهاء القانون الجنائي[1] في العقود الأخيرة اهتموا بدراسة الجرائم المعلوماتية باعتبارها ظاهرة فرضت نفسها على المجتمع وأصبحت حقيقية اجتماعية لا مناص منها، كما دفعت الآثار الخطيرة والمدمرة للاعتداءات التي تمس المعاملات الإلكترونية ونظم التبادل الإلكتروني للمعطيات إلى محاولة إيجاد حماية تشريعية للمعاملات الإلكترونية، إلا أنه اختلفت مواقف وآراء الفقهاء بخصوص مدى كفاية النصوص التقليدية في توفير الحماية اللازمة للمعاملات الإلكترونية.
وغني عن البيان أن نصوص مجموعة القانون الجنائي التقليدية كانت هي المطبقة في مواجهة هذه الجرائم، مثل تلك المقررة في جرائم الأموال كالسرقة والنصب وخيانة الأمانة (الفقرة الأولى). إلا أن ظهور أساليب جديدة للاعتداء كالدخول إلى نظام المعالجة الآلية للمعطيات وتغيير المعطيات مثلا، جعلنا نختار وضع تقييم لمدى صلاحية تطبيق القواعد التقليدية على هذا النوع من الجرائم (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الحماية الجنائية للمعلومات الإلكترونية من خلال النصوص التقليدية

إن الدراسات القانونية الأكاديمية التي عنيت بالخصوصية وبحقوق الإنسان بشكل عام هي حديثة العهد، إذ يمكن القول أن نهاية الستينات وبداية السبعينات شهدت انطلاق مثل هذه الدراسات وأن هذه الفترة تحديدا هي التي أثير فيها لأول مرة وبشكل متزايد مفهوم خصوصية المعلومات كمفهوم مستقل[2].
في هذا الصدد ثارت عدة صعوبات قانونية بخصوص مدى اعتبار المعطيات والمعلومات من قبيل المنقولات، وذلك راجع لكونها ليست من الأشياء، وجرائم الأموال لا تحمي سوى المنقولات، ناهيك عن أنه يصعب أيضا تصور حيازة المعطيات والمعلومات لأن لها كيانا معنويا، إذ أن الحيازة لا تتصور إلا بالنسبة للأشياء التي يرد عليها الاتصال المادي، كما أن المعطيات تبقى مدونة على الدعامة التي تحملها على الرغم من نسخها على شريط أو قرص، وفي ذلك تختلف المعطيات عن المنقولات التي تبقى بعد تحريكها[3].
وقبل أن يتدخل المشرع بنصوص صريحة لإضفاء الحماية الجنائية للمعلومات الإلكترونية وعلى حيازتها، استشعر القضاء حتمية حماية حق صاحب هذه المعلومات في ملكيتها، وقد استتبع ذلك الأمر إعادة النظر في الطبيعة القانونية للمعلومات (للمعطيات)، والبدء بالاعتراف لها بصفة المال لأن لها قيمة، بحيث يعتبر مالا كل ما له قيمة يحرص صاحبه عليه ويترتب على سلب هذه القيمة حدوث أضرار فعلية لصاحبه، وجرائم الأموال تحمي كل ما له قيمة.
كما ذهب بعض الفقه[4]، إلى اعتبار المعلومات أو المعطيات مالا منقولا، وهي صور حديثة من صور الأموال المنقولة لها ما يميزها عن غيرها من الأموال، ومن المعلوم أن المنقولات تختلف بحسب طبيعتها فيما يتعلق بطريقة انتقالها، فمنها من ينتقل عبر أسلاك كالكهرباء، وهناك أموال تنتقل بالتدوين عن طريق الفاكس أو بالتبادل الإلكتروني كالنقود في البنوك أو بالتسجيل في أشرطة أو أسطوانات، وما اختلاف المعطيات في أسلوب انتقالها إلا دليل على الاختلاف في طبيعتها[5].
وتعتبر المعلومات حسب نفس الفقه مملوكة لصاحبها، وتصلح لأن تكون محلا للحيازة، بحيث أن المسلم به أن المعلومات ليس من الأموال المباحة، بل إنها مملوكة مادام صاحبها يحرص على إخفائها عن الغير، وهذا على عكس الحالة التي يقوم فيها صاحب المعلومات بإتاحتها للجميع، كأن يبثها عبر شبكة الانترنت مثلا، حيث تصبح مالا مباحا بالمعنى المعروف في جرائم الأموال، إلا أنها تبقى منسوبة إلى صاحبها ويمكن أن تتمتع بالحماية المقررة لحق المؤلف، إذا ما توافرت شروط تلك الحماية، أما بخصوص صلاحيتها لأن تكون محلا للحيازة، فمادامت الحيازة هي سيطرة الشخص على الشيء، فإن هذا المفهوم لا يتنافى مع المعلومات، التي تصبح في حيازة صاحب الحق مادامت مسجلة على أجهزة حاسوب أو أشرطة أو أسطوانات خاصة [6].
في حين يعتقد رأي فقهي آخر أن المعلومات (المعطيات) لا تعتبر حقا لا يخص الغير على سبيل الاستئثار، فهي حق متاح للعموم يمكن تداولها والانتفاع بها دونما تمييز، ومن ثم لا يمكن أن تكون محلا للحماية، كما أن الاعتداء على المعطيات لا يقع تحت طائلة المسؤولية الجنائية، لأنه لا يحرم صاحبها من حق استعمالها [7].
في هذا الإطار أرى على أنه ما يعد ضروريا في حالة الاعتداء على المعطيات، هو إمكانية حصر هذه المعطيات أو المعلومات في دائرة خاصة بها، وتحديد جوانبها، وهذا أمر يمكن تحقيقه بالمعالجة الآلية للمعطيات. وتأسيسا على ما سبق يجب أن تتمتع المعطيات بالحماية القانونية، وذلك قياسا على ما يعد ضروريا في حالة الاعتداء على الأموال، لأن الاعتداء على الأموال حسب بعض الفقه[8]، يجب أن ينصب على شيء محدود، وأن يكون هذا الشيء بدوره محلا لحق محدد. كما أنه إذا كان الوصول إلى هذه المعطيات غير مسموح به إلا لأشخاص محددين فإنه تتوافر لها صفة الاستئثار، والتي تعتبر أمرا ضروريا، لأنه في مختلف الجرائم التي تنطوي على اعتداء قانوني على الأموال، فإن الفاعل يعتدي على حق يخص الغير على سبيل الاستئثار[9].
ولما كانت جريمة السرقة تثير المشاكل أكثر من غيرها من جرائم الأموال، فضلا عن أن الحلول بشأنها تعتبر القاعدة العامة بالنسبة للجرائم الأخرى[10]، فإننا سنتطرق للنشاط الإجرامي في جريمة السرقة ومدى قبول المعطيات للخضوع له.
إن فعل الأخذ أو الاختلاس في جريمة السرقة هو الاستيلاء على الحيازة التامة للشيء بدون رضاء المالك أو الحائز الذي يفقد حيازته وسيطرته على هذا الشيء أي أن الاستيلاء ينتج عنه خروج الشيء المستولى عليه من ذمة ودخوله في ذمة أخرى، ويتحقق هذا الأمر، إما بنزع الشيء من مكانه وإما بالاستيلاء عليه بعد سبق تسليم اليد العارضة  [11].
وعليه فإن اختلاس المعطيات المعالجة آليا وإن كان يدخل في ذمة من استولى عليها، إلا أنه في نفس الوقت لم يخرج هذه المعطيات من ذمة صاحبها الشرعي، إذ تظل رغم مباشرة أفعال الاختلاس عليها تحت سيطرته دون أدنى انتقاص من محتواها، هذا بالإضافة إلى أن المعطيات من طبيعة غير مادية، فكيف يتصور أن يرد فعل الأخذ أو الاختلاس الذي هو من طبيعة مادية على شيء معنوي؟
وقد أثيرت مشكلة خضوع المعطيات المعالجة آليا لفعل الاختلاس أمام القضاء الفرنسي، وأول حكم أصدرته محكمة النقض الفرنسية في هذا الشأن هو حكم لوجا باكس logabax، الذي تتلخص وقائعه في أن أحد المهندسين كان يعمل بشركة "لوجا باكس" فتم فصله عن عمله، فقام برفع دعوى ضد رب العمل، ولتأييد دعواه قدم صورتين كان قد نسخهما لمستندين من مستندات الشركة، وأمكنه الحصول عليهما بمناسبة وظيفته السابقة وقبل فصله عن العمل، تمت متابعته من طرف رب العمل بتهمة سرقة هذه المستندات، فبرأته محكمة الدرجة الأولى، وتم تأييد حكم البراءة في الاستئناف لكن محكمة النقض الفرنسية نقضت هذا الحكم وذلك لمخالفته صريح القانون، وعللت حكمها بأن القانون لم يشترط لتحقيق الأخذ أو الاختلاس في جريمة السرقة أخذ أو انتزاع الشيء، كما أن الاختلاس يمكن أن يتحقق ولو كان الشيء بين يدي الجاني قبل الاستيلاء عليه على سبيل اليد العارضة، ولأن الجاني استولى على صور المستندين التابعة للشركة المذكورة التي كان يعمل فيها لمصلحته الشخصية بدون علم وبدون رضاء رب العمل المالك لهما[12].
نافلة القول بهذا الخصوص أن الفقه انقسم حول هذه المسألة إلى اتجاهين:
الإتجاه الأول: ذهب إلى نفي إمكانية وقوع جريمة السرقة على هذه العناصر غير المادية، لأن محل السرقة في اعتقادهم هو استيلاء على مالا مملوكا للغير، وبالتالي يصعب تصور هذه الجريمة في العناصر الغير مادية متل المعلومات و البيانات[13].
إذ استبعدوا أن تقع جريمة السرقة على المعطيات أو المعلومات مستقلة عن دعامتها نظرا للطبيعة غير المادية للمعطيات التي تأبى تحقق الأخذ أو الاختلاس بمعناه الدقيق المسلم به في جريمة السرقة والذي يعني الاستيلاء على الحيازة التامة للشيء دون رضاء مالكه أو حائزه القانوني، لأنه إذا أمكننا تصور حصول الاختلاس من خلال النسخ أو التصوير على المعطيات، فإن هذه المعطيات أو المعلومات الأصلية ذاتها تظل في نفس الوقت كما كانت من قبل تحت سيطرة صاحبها الأصلي ولا تخرج عن حيازته.
على النقيض من ذلك، ذهب اتجاه أخر من الفقه إلى اعتبار المعلومات و البيانات والبرامج المعلوماتية مالا معلوماتيا يمكن أن يكون موضوعا لجريمة السرقة المعلوماتية، مستدلا بمجموعة من الحجج أبرزها:
أن البيانات المعلوماتية بوصفها كيانات منطقية أصبحت لها قيمة اقتصادية كبيرة يمكن الاستيلاء عليها منفصلة من دعامتها المادية[14].
أن كلمة الشيء الواردة في المادة 379 من القانون الجنائي الفرنسي[15] لا تقتصر على الأشياء المادية فقط، وإنما تشمل كذلك الأشياء الغير مادية، باعتبار البيانات والمعلومات والبرامج المعلوماتية يمكن حيازتها.
في نفس المنحى نشير إلى أن الطريقة أو الأسلوب الذي يتبعه الجاني للقيام بالنشاط الإجرامي المحقق للاختلاس، يختلف عن الأسلوب الذي ينفذ به هذا النشاط، وذلك باختلاف الشيء المختلس.
فطريقة الاستيلاء على سيارة مثلا تختلف تماما عن طريقة الاستيلاء على التيار الكهربائي، كما أن اختلاس الشيء أو انتزاعه من موضعه لا يستدعي بالضرورة تحريك هذا الشيء وانتقاله، أي تحريك حيازته واستبدالها بل يمكن أن يحصل حتى دون تحريك الشيء من مكانه[16].
من وجهت نظري يتضح لي أن الاتجاه الثاني الذي يقول بصلاحية المعطيات للاختلاس أو الأخذ، هو الصائب وذلك لعدة اعتبارات، أهمها أن النتيجة الإجرامية تحققت مما يؤدي إلى الانتقاص من قيمت الشيء المختلس بفعل عملية الاختلاس، لأن صاحبها يكون في هذه الحالة قد فقد حقه في احتكار استغلالها، وبالتالي يجب توفير الحماية القانونية للمعطيات في حد ذاتها.

الفقرة الثانية: ضرورة توفير نصوص خاصة لحماية نظم المعلومات

نعي جيدا أن المعلومات أو المعطيات تجد ذاتها في القيمة المعنوية التي تحتويها، وهي بهذا المعنى تحولت من مجرد المعرفة إلى التعامل بالمعرفة، وكان نتيجة ذلك التحول أن أصبح هناك ما يعرف بالمال المعلوماتي le Bien Informatique، والذي يصلح أن يكون محلا للحقوق وتحمل التبعية[17]. فالبرامج والبيانات المعلوماتية تعد ذات طبيعة من نوع خاص لكونها لا تندرج ضمن القيم المالية التي يمكن الاعتداء عليها، لأنها ليست من الأشياء التي يمكن الاستئثار بحيازتها، فالمعلومة باعتبارها ذات طبيعة معنوية لا تندرج ضمن القيم المحمية، مالم تكن تنتمي إلى المواد الأدبية أو الفنية أو الصناعية التي تحميها حقوق الملكية الفكرية مادامت بعيدة عن دعامتها son support ، كما أن للمعلومة مجموعة من القيم الاقتصادية حيت تدخل في عداد الحقوق المالية مع استبعادها من طائفة القيم المالية وإدخالها في طائفة المنافع و الخدمات les services [18].
فالمعلومة أصبحت تقوم ماليا، وهي بالتالي تدخل في عداد الأموال الاقتصادية وقد تكون المعلومة شخصية، وإفشائها يهدد الحياة الخاصة من جوانب متعددة. ونظرا للتطور السريع في التكنولوجيا وتقنيات المعلومات التي تمثلت في ظهور شبكة الانترنت، أظهر الدراسات الجنائية عدم كفاية النصوص التقليدية، في تطبيقها على الجرائم المستحدثة، في ظل التطور الهائل في أنظمة معالجة المعلومات ونقلها عبر الشبكات، وباتت الحاجة ضرورية لاستحداث قواعد قانونية جديرة لمواجهة هذه الجرائم المستحدثة[19].
وفي ذات السياق فإن المعلومات أو المعطيات الإلكترونية تتصل بطائفة مهمة من النظم الإدارية والتجارية والمالية التي تمتد لتشمل الدولة والأفراد على حد سواء، وتعتبر من الأدوات المهمة في تنفيذ وتكريس رقمنة المعاملات.
ومن تم فإن الحماية الجنائية للمعلومات أو المعطيات هي السبيل لتحقيق التجارة الدولية أهدافها، وإنجاز المعاملات وإبرام الصفقات التي تقتضيها فكرة التجارة الإلكترونية. ومن شأن كفالة حماية المعلومات على شبكة الانترنت أن يفضي إلى سهولة المعاملات التجارية وسرعة إنجازها وإلى توفير النفقات[20].
من هذا المنطلق كان لزاما التطرق إلى مسألة هامة متعلقة، حول قدرة نصوص مجموعة القانون الجنائي في معالجة جرائم الإخلال بسير نظم المعالجة الآلية للمعطيات من عدمها لم يكن الإجماع بحولها، بحيث يوجد اتجاهان:
v      الاتجاه الأول:
يرى مناصروه أن مجموعة القانون الجنائي المغربي لا يتوفر إلا على نصوص تقليدية بالية، فيما يخص الجريمة والعقاب، أصبحت متجاوزة، ولم تعد تتناسب وخصوصيات الجريمة المعلوماتية [21]، كما أن الحماية التي توفرها القواعد العامة التقليدية تبدو غير كافية وقاصرة.
فهي غير كافية لأن الجزاءات الجنائية التي تقررها ضئيلة إذا ما قورنت بجسامة الاعتداءات، وما يترتب عليها من نتائج خطيرة، وأيضا هي قاصرة لأن بعض صور هذه الاعتداءات بل أخطرها، لا تدخل في نطاق حماية تلك القوانين إما لأنها لم تنص عليها، وإما لأنها لا تتلاءم مع طبيعة الكيان المعنوي للمال المعلوماتي، مما يستوجب الإسراع بتشريع قواعد تجريمية جديدة، تتناسب وخطورة هذه الاعتداءات بحيث يظهر أنه من الصعب تطبيق النصوص التقليدية للقانون الجنائي على سائر مظاهر الاعتداءات التي تمس المعلوماتية[22].
ومن هذا المنطلق فإن هذا الاتجاه يقر على أن كل واقعة لا تعد جريمة ما لم يقرر القانون ذلك، استنادا إلى مبدأ الشرعية، كما أن الجاني لا يمكن أن يخضع لعقوبة تختلف عما يقرره المشرع.
v      الاتجاه الثاني:
يعتقد أصحابه بأن هناك هامشا داخل القواعد التجريمية العامة يمكن من خلاله مواجهة ما استجد من الجرائم المعلوماتية، في انتظار قيام المشرع الجنائي بوضع أسس جديدة للجرائم الحديثة. وحتى يتأتى للمشرع ذلك يتوقف الأمر على القاضي الذي يعول عليه في اعتماد القواعد العامة في التجريم ومحاولة إدخاله لقواعد تتناسب ومبدأ الشرعية الجنائية[23]، كأساس يعتمد من أجل إيجاد حلول للنوازل الخاصة بالجرائم المعلوماتية كلما طرحت على القضاء المغربي.
ويذهب مؤيدو هذا الاتجاه[24]، إلى أنه يمكن معالجة الجرائم المعلوماتية عن طريق تأويل القواعد العامة، مؤكدين أن إدخال تقنيات المعلومات إلى مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية سيؤدي بالضرورة إلى تمديد نصوص مجموعة القانون الجنائي إليها، فهم مقتنعون بأنه لا يمكن وضع حد لهذا الفراغ إلا بتأويل أوسع للجرائم التقليدية ضد الأموال أخذ الحيطة تجنبا للاصطدام مع مبدأ الشرعية في التجريم، كما أنه ليس من القانون في شيء إخلاء سبيل مجرمين يجنون من وراء أنشطتهم الإجرامية أموالا طائلة بدعوى صعوبة تكييف النص على الحالة المستجدة[25].
من وجهت نظري الشخصية هنا أرى أن عين الصواب للحد من هذا الشرخ و التباين في الآراء يستوجب على المشرع المغربي إحداث نصوص خاصة لتجريم هذا النوع الجديد من الإجرام، حتى لا يجد القاضي المغربي نفس في اصطدام مباشر بمبدأ الشرعية.
وبالرجوع إلى بعض القضايا التي عرضت على القضاء المغربي قبل صدور نصوص خاصة لتجريم الاعتداء على المعطيات، نلاحظ أنه لم يستقم على اتجاه واحد، بحيث استبعد بمناسبة نظره إحدى قضايا التفسير الواسع للمقتضيات التقليدية لمجموعة القانون الجنائي، والتي يصعب تطبيقها على الحالات والأفعال الإجرامية التي تتولد عن استخدام التقنيات الحديثة، إذ قضى بتبرئة ساحة بعض المتهمين المتابعين من أجل جريمة السرقة، وكانت هذه بمثابة أول قضية تطرح على القضاء المغربي في هذا الخصوص وذلك سنة 1985. وتتلخص وقائع هذه القضية في تسهيل مستخدمي المكتب الوطني للبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية تحويلات هاتفية لفائدة بعض المشتركين بصورة غير مشروعة. وقد توبع المتهمون بمقتضى الفصول 505 و 541 و 251 و 129 من مجموعة القانون الجنائي، وأدانتهم ابتدائية البيضاء آنفا على أساس الفصل 521 من مجموعة القانون الجنائي المتعلق بالاختلاس العمدي لقوى كهربائية أو أي قوى ذات قيمة اقتصادية، إلا أنه تمت تبرئتهم استئنافيا لعدم تناسب التكييف القانوني مع الفعل الإجرامي[26].
وقد ساير القضاء المغربي نفس الاتجاه، في قرار المحكمة الابتدائية البيضاء-آنفا ( نفس المحكمة السالفة الذكر)، والتي أدانت حائز بطاقة ائتمان وأداء استعمالها بصورة تعسفية، حيث كان المتهم قد سحب مبالغ مالية لا يتوفر عليها رصيده البنكي، فأدانه القضاء الابتدائي بثلاث سنوات حبسا استنادا للفصلين 540 و 547 من مجموعة القانون الجنائي، المتعلقين بجريمتي النصب وخيانة الأمانة، غير أن محكمة الاستئناف بالبيضاء لم ترى وجوب تطبيق الفصلين المذكورين وألغت الحكم الابتدائي، لأن تلك الأفعال لا تشكل العناصر المكونة لا لجريمة النصب ولا لجريمة خيانة الأمانة[27]..
كما أنه في ظل غياب النصوص القانونية آنذاك التي تجرم بعض الأفعال المستحدثة، لم تجد محكمة الاستئناف بالدار البيضاء من بد سوى الوقوع في المحظور ألا وهو خرق قاعدة التفسير الضيق في مجموعة القانون الجنائي، إذ اعتبرت أن الناظمة الآلية (الحاسوب) بمثابة سجل رسمي للإدارة، وتتخلص وقائع القضية في أن المتهم أي الموظف بإدارة الجمارك أقر بأنه بتاريخ 18/05/1998، قام باستعمال رمزه السري للولوج إلى قاعدة البيانات المضمنة بالناظمة الآلية-الحاسوب- لإدارة الجمارك، وسجل بها معلومات مخالفة للحقيقة، فتمت متابعته من أجل جنحة التزوير في وثيقة إدارية والمشاركة طبقا لمقتضيات الفصول 129 و 360 و 361 من مجموعة القانون الجنائي[28].
ومن نافلة القول أن التباين في اختلافات الآراء بين النظرية التقليدية والنظرية الحديثة يعود إلى تعريف الأموال، فالأموال من وجهة النظر التقليدية لا ترد إلا على الأشياء المادية، ولهذا كان تعريف المال حسب هذه النظرية هو كل شيء مادي يصلح لأن يكون محلا لحق من الحقوق المالية أما النظرية الحديثة فترى أن المعيار في اعتبار الشيء مالا، ليس على أساس ما له من كيان مادي، وإنما على أساس قيمته الاقتصادية، وأن القانون الذي يرفض إصباغ صفة المال على شيء له قيمة اقتصادية هو بلا شك قانون ينفصل تماما عن الواقع[29].
وعلى هذا النحو يكون مقبولا أن يكون موضوع المال شيء غير مادي متى كانت له قيمة اقتصادية، يستحق إذن الحماية القانونية في إطار جرائم الأموال.
وختاما يمكن القول أنه أمام هذا التنافر في الآراء، وفي ظل هذا الواقع الذي يوضح بجلاء التنامي والتطور السريع للاعتداءات التي تمس المعطيات المعالجة آليا والمعاملات الإلكترونية، فإن المشرع المغربي لم يتخلف عن إصدار تشريعات خاصة تكفل ضمان تحقيق بعض أوجه الحماية الجنائية الممكنة والفعالة للبرامج والمعطيات، عن طريق إصدار تشريعات خاصة تجرم الأفعال التي تؤدي إلى المس بنظم المعطيات والمعاملات الإلكترونية[30].
إلا أنه رغم كل ذلك نستنتج أن تطوير التشريع الجنائي وجعله يتلاءم مع خصوصيات الجريمة المعلوماتية يسير في اتجاهين وبوتيرة مختلفة، حيث يلاحظ أن الاهتمام بما هو تقني واقتصادي يأتي في المرتبة الأولى، بينما ما هو مرتبط بالجانب الاجتماعي والإنساني يأتي في المرتبة الثانية. ومنه يبقى على عاتق القضاء العمل على إعادة هذا التوازن والحد من التأثيرات السلبية للوسائل الإلكترونية المعلوماتية.
الهامش 
[1]  - سأعرج على أراء ومواقف الفقهاء أدناه
[2] - أيمن عبد الله فكري، الجرائم المعلوماتية، دراسة مقارنة، في التشريعات العربية والأجنبية، مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، ط الأولى، 2014، ص734.
[3] - عبد الرحيم زروق، م.س، ص 425.
[4]  - غنان محمد غنام و عبد الرحيم زروق
[5] - عبد الرحيم زروق، م.س، ص 426.
[6] - عبد الرحيم زروق، م.س، ص 427.
[7]- Jean Devèze , le vol de biens informatiques J.C.P.E n° 20, 1986 p 32.
[8] -Pierre Catala, les transformations de droit par l’informatique, Ed des parques, 1983,p 264.
[9] - نائلة عادل محمد فريد قورة، جرائم الحاسب الآلي الاقتصادية، منشورات الحلبي الحقوقية لبنان ، ط الأولى 2004، ص 114.
[10] - علي عبد القادر القهوجي، الحماية الجنائية للبيانات المعالجة الكترونيا، بحث مقدم لمؤتمر القانون والكمبيوتر والانترنت، كلية الشريعة والقانون، جامعة الإمارات العربية المتحدة، المجلد الثاني، ط الثالثة 2004، ص 581.
[11] - علي عبد القادر القهوجي، الحماية الجنائية لبرامج الحاسوب، دار الجامعة الجديدة للنشر، الاسكندرية، 1997، ص 51.
[12] -  قرار أورده علي عبد القادر القهوجي، الحماية الجنائية للبيانات المعالجة الكترونيا، م.س، ص 583.
[13] - محمد الماحي، بعض صور الجريمة المعلوماتية، مقال منشور على موقعHTTP://www.ziripress.com/columns، تاريخ الزيارة 25/02/2017، على الساعة 22:00.
[14]D-M : vivant à propos des biens infirmations .1894 . p 2 .142.
[15]  -Article 379 :
«  A moins que le président n'en ordonne autrement d'office ou sur la demande du ministère public ou des parties, il n'est fait mention au procès-verbal, ni des réponses des accusés, ni du contenu des dépositions, sans préjudice, toutefois, de l'exécution de l'article 333 concernant les additions, changements ou variations dans les déclarations des témoins ».
[16] - علي عبد القادر القهوجي، الحماية الجنائية للبيانات المعالجة الكترونيا، م.س، ص 583.
[17] - رصاع فتيحة، الحماية الجنائية للمعلومات على شبكة الأنترنت، مذكرة لنيل شهادة ماجيستر في القانون العام، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة أبي بكر بلقايد –تلمسان- الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، السنة 2011/2012، ص88.
[18]- JEAN LOUIS GOUTAL informatique et droit privé  , discussion générale émergence du droit l’informatique 1983, p 92.
[19] - أحمد خليفة المطل، الجرائم المعلوماتية، دار الفكر الجامعي، ط الثانية، 2006، ص 109/110.
[20] - رصاع فتيحة، م.س، ص90.
[21] - Tazi Sadeq Houria, l’ordinateur, le fraudeur et juge (observations à propos de l’affaire des manipulations téléphoniques) in revue marocaine de droit de et d’économie du développement n° 11 année 1986,p 63
[22] - عبد الكريم غالي، الحماية الجنائية للمعلومات على ضوء القانون المغربي، مجلة الملحق القضائي، العدد 34، مارس 2002، ص70.
[23] - Mohiedine Amzazi, « informatique et droit pénal, revue marocaine de droit etd’économie du développement n°11, année 1986,p56 »
[24] - راجع بعض الآراء الفقهية الواردة في مقال عبد الكريم غالي، الحماية الجنائية للمعلومات على ضوء القانون المغربي، م.س، ص 72.
[25] - محمد كرم، صعوبة إثبات الجرائم المرتكبة عن طريق التقنيات الحديثة ، مجلة المحامي، هيئة المحامين بمراكش، عدد مزدوج 44-45، ص 339.
[26] - حكم ابتدائية البيضاء-آنفا رقم 4/4236 الصادر في 13/11/1985 ملف جنحي تلبسي عدد 85/73831، منشور عند عبد الرحيم زروق، م.س، ص 425.
[27] - قرار عدد 4494 صادر بتاريخ 24/4/1990، قضية رقم 1095/90 منشور عند عبد الرحيم زروق، م.س، ص 425.
[28] - قرار عدد 368 الصادر بتاريخ 07 أبريل 2000 في الملفين المضمونين عدد 410 و 298/5/99، مشار إليه عند صالح خالد، جرائم الاتصال الالكتروني بين التشريع والقضاء، مجلة المحاكم المغربية، عدد96، شتنبر- أكتوبر 2002، ص 140.
[29] - Jean Carbonnier, droit civil, P.U.F paris 1973, tome 3, les biens12e éd, p 54.
[30]  - فـــؤاد بـــرامي، استراتيجية الأمن المعلوماتي فــي حماية نظم المعطيات، رسالة لنيل دبلوم الماستر العلوم الجنائية والأمنية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض، مراكش، السنة 2017/2018، ص26.
(*) باحث في العلوم القانونية، خريج ماستر العلوم الجنائية والأمنية – مراكش.

عن الكاتب

justicemaroc

التعليقات

>

اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

تابعونا على الفيسبوك

موقع العدالة المغربية

موقع العدالة المغربية، موقع مغربي غايته نشر العلم والمعرفة القانونية بين الطلبة والباحثين في المجال القانوني، يمكنكم المساهمة معنا في إثراء الساحة القانونية عبر إرسال مساهماتكم إلى البريد الإلكتروني التالي: contact@marocjustice.com
موقع العدالة المغربية، رفيقك إلى النجاح في الدراسات القانونية

جميع الحقوق محفوظة

موقع العدالة المغربية