عبد الكريم الجلابي
طالب وباحث في القانون
للقانون
صيرورة حضارية إذ تسعى كل الأمم بلوغ أقصى الغايات والمراتب في التنظيم الاجتماعي
والاقتصادي والسياسي بحثا عن تحقيق هدف أسمى وتحقيق نموذج مثالي للعدالة والسعادة
في المجتمع. فتطورت النظم العقابية
اضطرادا بتطور هذا الأخير، ولعل أبرز التطورات التي شهدتها المنظومة
الجنائية العالمية ظهور أنظمة عقابية حديثة ومتطورة، أنظمة غايتها الأسمى إصلاح
الفرد والمجتمع دون أن تنحرف العقوبة عن غايتها التقليدية التي هي تحقيق الردع
وتخليص المجتمع من الآفات والظواهر السلبية.
تعد
العقوبات البديلة إحدى هذه الأنظمة الحديثة التي تبنتها العديد من الدول المتقدمة – فرنسا، النرويج... نموذجا – بحثا عن
بدائل جديدة للعقوبات التقليدية (السالبة
للحرية)، وقد أثبت هذا النظام – العقوبات البديلة - نجاعته لما يتوفر عليه من إيجابيات، على مستويات
عدة: اقتصادي، اجتماعي، وعقابي عبر تحقيق الردع المنشود.
لا شك أن
المغرب شأنه شأن باقي البلدان يشكو من مشكل الاكتظاظ على مستوى الساكنة السجنية
وما لهذا الأخير من عواقب وخيمة على نزلاء المؤسسات السجنية وعلى المجتمع ككل،
فيما يتعلق بالوقاية من حالات العود أو إضاعة فرص إعادة الإدماج.
ومن هذا
المنطلق بدأ المشرع المغربي يتجه نحو
السياسة الجنائية الحديثة المتمثلة في العقوبات البديلة عن العقوبات السالبة
للحرية، حيث تناول في مسودة القانون الجنائي العقوبات البديلة في فرع خاص، كما
أعطى لها تعريفا شاملا حيث نص في الفقرة الأولى من المادة 1-35 كما يلي:
«عقوبات يحكم بها في غير حالات العود كبديل للعقوبات
السالبة للحرية في الجنح التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها من أجلها سنتين حبسا».
واشترط
المشرع المغربي في الفقرة الثانية من نفس المادة تنفيذ المحكوم عليه للالتزامات
المفروضة عليه لكي يستفيد من العقوبة البديلة عن العقوبة السالبة للحرية، كما أوجب
على المحكمة في الفقرة 1 /3 من المادة 4، إشعار المحكوم عليه بأنه في
حالة عدم تنفيذه للالتزامات المفروضة عليه فإنه سيتم تنفيذ العقوبة الأصلية
المحكوم بها عليه.
وفي حالة
عدم وفاء المحكوم عليه بالالتزامات المفروضة عليه بموجب العقوبة البديلة ينفذ
المحكوم عليه العقوبة الأصلية المحكوم بها بقرار صادر عن قاضي تطبيق العقوبات .
وقسم
المشرع المغربي في مسودة القانون الجنائي الجديدة، العقوبات البديلة إلى ثلاث
أقسام:
القسم الأول: العمل لأجل
المنفعة العامة.
عرف
قانون العدالة الجنائية بإنجلترا العمل للنفع العام أو لصالح المجتمع بأنه: "
تلك العقوبة البديلة التي تضمن عمل المحكوم عليه لصالح المجتمع، ولا يحصل المحكوم
عليه على أجر إطلاقا مقابل عمله".
وقد
اشترط المشرع المغربي في العمل بهذا البديل في المادة 6-35 بلوغ المحكوم عليه سن
15 سنة كأدنى حد، وقت ارتكابه الجريمة، وألا تتجاوز العقوبة المنطوق بها سنتين
حبسا.
أما في
الفقرة الأولى من المادة 7-35 فقد اعتبر العمل المحكوم به لأجل المنفعة العامة عمل
غير مؤدى عنه، وينجز لفائدة شخص اعتباري عام أو جمعية ذات منفعة عامة لمدة تتراوح بين 40 و600 ساعة، كما
خص المحكمة بتحديد ساعات العمل لأجل المنفعة العامة، واعتبر في الفقرة الثانية من
نفس المادة أن كل يوم من مدة العقوبة يوازيه ساعتين من العمل مع مراعاة الحد
الأقصى لساعات العمل المنصوص عليه في الفقرة السابعة (الفقرة الأولى من المادة
7-35).
كما خص
المشرع المادة 9-35 للأحداث بصفة استثنائية حيث
اعتبر في المادة 7 أن العمل لأجل المنفعة العامة لا يعمل به في حالة
الأشخاص الذين هم دون سن 15 سنة، لكن في
حالة ما إذا قررت المحكمة الحكم بعقوبة حبسيه وفقا للمادة 482 من ق.ج.م، يمكن
للحدث أن يستبدلها بعقوبة العمل لأجل المنفعة العامة.
وتشير
الفقرة الثانية من المادة 9-35 إلى أنه يتعين على قاضي الأحداث أن يتأكد من مدى
ملاءمة العمل لأجل المنفعة العامة لمصلحة الحدث ولحاجيات تكوينه وإعادة إدماجه.
القسم الثاني: الغرامة
اليومية.
عرف
المشرع المغربي في مسودة القانون الجنائي الغرامة اليومية في الفقرة الأولى من
المادة 10-35 حيث اعتبرها عقوبة يمكن للمحكمة أن تحكم بها بدلا من العقوبة
الحبسية، وهي مبلغ مالي تحدده المحكمة عن كل يوم من المدة الحبسية المحكوم بها،
والتي لا يتجاوز منطوقها في المقرر القضائي سنتين حبسا.
كما نجد
أن المشرع في الفقرة الثانية من نفس المادة قد امتنع عن تطبيقها على الأحداث وذلك
لعدة اعتبارات منها أن الأحداث لا يستطيعون دفع المبالغ المالية التي تقررها
المحكمة المحددة في المادة 10-15 بين 100 و 2000 درهم عن كل يوم، وبالتالي قد
يتكلف بها أولياؤهم وهذا مخالف للقاعدة التي تقضي بأن الجريمة لا يتحمل تبعاتها
إلا من اقترفها، كما نجد أنه قد شدد المشرع على إلزامية أداء المبلغ الذي حكمت به المحكمة
وذلك في غضون أجل لا يتجاوز آخر يوم من العقوبة السالبة للحرية المحكوم بها وجاء
هذا صراحة في المادة 12-35 بحيث اعتبر المشرع أن المحكوم عليه يلزم بأداء المبلغ
المحدد له في أجل أقصاه آخر يوم من العقوبة الحبسية المحكوم بها والواجبة التنفيذ
فور صدور الحكم بها، مع إمكانية تحديد هذا الأجل بقرار صادر عن قاضي تطبيق
العقوبات بناء على طلب من المحكوم عليه.
القسم الثالث: تقييد بعض
الحقوق وفرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية.
اشترط
المشرع المغربي في العمل بهذا البديل في الحالات التي لا تتجاوز مدة العقوبة
السالبة للحرية المحكوم بها سنتين حبسا، وعبر عنها المشرع في الفقرة الأولى من
المادة 13-35، حيث نص على ذلك كالتالي « يمكن
الحكم بالعقوبات التي تتضمن تقييدا لبعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو
تأهيلية، كبديل للعقوبات السالبة للحرية التي لا تتجاوز منطوقها في المقرر القضائي
سنتين حبسا ».
في حين
نص على اختيار المحكوم عليه والتأكيد على استعداده لتقويم سلوكه واستجابته لإعادة الإدماج
.
و في
المادة 14-35 نص المشرع على أنه « يلزم
المحكوم عليه بتنفيذ العقوبات التي تتضمن تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية
أو علاجية، داخل أجل لا يتجاوز خمس سنوات من تاريخ صدور المقرر التنفيذي مع
إمكانية تمديد هذا الأجل بناء على طلب من المحكوم عليه، بقرار صادر عن قاضي تطبيق
العقوبات أو قاضي الأحداث حسب الحالات »، في إشارة
إلى أن الأحداث هم أيضا معنيون بهذا البديل، وحدد المشرع في المادة 15-35 العقوبات
التي يمكن للمحكمة أن تحكم بها إما بعقوبة واحدة أو أكثر وهي كالتالي:
1- مزاولة المحكوم عليه نشاطا مهنيا محددا أو تتبعه دراسة
أو تأهيلا مهنيا محددا:
ويهدف المشرع من هذا الإجراء
إلى توجيه المحكوم عليه نحو التأهيل والتكوين على مستوى المهن والحرف التي تتلاءم
وإمكانياته المعرفية إما بتقييده بمزاولة نشاط مهني معين أو تتبعه دراسة معينة أو
تكوين معين.
2- إقامة المحكوم عليه بمكان محدد والتزامه بعدم مغادرته،
أو بعدم مغادرته في أوقات معينة:
والغاية من هذا الإجراء هي
وضع قيود على تحركات المحكوم عليه حسب الجريمة التي اقترفها ومدى خطورتها على
المجتمع، وإلزامه بعدم المغادرة كليا من مكان محدد أو بعدم مغادرته في أوقات
محددة.
3- فرض رقابة يلزم بموجبها المحكوم عليه من قبل قاضي تطبيق
العقوبات أو قاضي الأحداث، -إذا تعلق
الأمر بحدث- بالتقدم في مواعيد محددة، وحسب الحالات، إما إلى المؤسسة السجنية أو
مقر الشرطة أو الدرك الملكي أو مكتب الموظف المكلف بالمساعدة الاجتماعية بالمحكمة:
وذلك لأجل الكشف عنه ومراقبة سلوكياتها والنظر فيما إذا
كان يستجيب للشروط المفروضة عليه.
4- خضوع المحكوم عليه لعلاج نفسي أو علاج ضد الإدمان؛
الهدف والغاية من هذا الإجراء هو مساعدة المحكوم عليه
وعلاجه من حالة الإدمان خصوصا في الجرائم المتعلقة بالمخدرات بمختلف أنواعها، وذلك
بمساعدته على الإقلاع عن هذه المواد عبر علاج طبي بشكل منتظم، و كذا تتبع حالته
النفسية ومواكبة ظروفه الاجتماعية، ويتم ذلك إما في مراكز متخصصة تابعة للدولة أو
في مراكز خاصة بمكافحة الإدمان على المخدرات وغيرها من المواد السامة.
5- تعويض أو إصلاح المحكوم عليه للأضرار الناتجة عن
الجريمة؛
يعتبر هذا البديل من أنجع البدائل التي أتى بها مشرع
مسودة القانون الجنائي، كونه يحقق غاية ثنائية أولها إيلام الجاني والإنقاص من
ذمته المالية، و ثانيها رد الاعتبار للضحية وجبر ضرره الناتج عن الفعل المرتكب.
ومن خلال
تحليلنا للمسودة الجنائية في الشق المتعلق بالعقوبات البديلة يتبين لنا أن المشرع
المغربي في خطوة جادة منه لمواكبة التطورات التي يشهدها العالم في مجال الحريات
والحقوق العامة من جهة وسعيه إلى التقليص من أعداد السجناء وتوفير تكاليف معيشتهم
داخل أسوار السجن من جهة أخرى، ذهب إلى اعتماد العقوبات البديلة كحل لمشكل
الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية وحماية للجناة بالصدفة من سلبيات السجن.
بالإضافة الى البدائل التي أوردها المشرع المغربي في
مسودة القانون الجنائي، توجد بدائل أخرى نص عليها في مسودة قانون المسطرة الجنائية
الجديد ويتعلق الأمر ببديل المراقبة الالكترونية ( المواد من 174-1 إلى 174-3 من
المسودة)، كبديل عن الاعتقال الاحتياطي الذي أصبح عالة على الأنظمة العقابية. والمقصود
بالمراقبة الالكترونية وضع جهاز إلكتروني في معصم المتهم أو في رجله (خلخال الكتروني) شبيه بالساعة، مرتبط بجهاز
تتبع GPS يرسل
إشارات للمصالح المكلفة، وفي حالة ما إذا تجاوز المتهم الحدود المسموح له بها
بالتحرك داخل منزله يقوم الجهاز المثبت في المعصم أو في الرجل - حسب الأحوال – بإرسال إشارات للجهة القائمة على
التنفيذ، الأمر الذي يدل تلك الجهة أن المتهم قد أخل بالالتزام الملقى على عاتقه.
من خلال ما سبق نرى أن المغرب يسير
في مسير الدول المتقدمة عبر تبني نظام عقابي حديث ذو هدف ثنائي: تحقيق الردع ورد
الاعتبار للمجتمع من جهة وإصلاح الفرد وتخليصه من مساوئ السجن من جهة أخرى.
نظام العقوبات البديلة نظام جد متطور يحتاج في تطبيقه إلى بيئة متطورة وأرضية صالحة وملائمة حتى يعطي نتائج جيدة ويحقق الغاية المرجوة، لذلك نسائل المشرع المغربي عن الآليات والوسائل التي وضعها لأجل هذا النظام؟